مقالات

“رواية “أنشودة البرد والحرية

يقدّم “أحمد المرزوقي” في سيرته الروائية “تزممارت – الزنزانة رقم 10” شهادة مؤلمة وقاسية عن ثماني عشرة سنة قضاها معتقلاً في سجن رهيب، لم يكن يعرف بوجوده أحد.

ففي عام 1971 وجد طلاب مدرسة أهرمومو العسكرية أنفسهم متورطين في محاولة انقلاب على ملك المغرب “الحسن الثاني”، من دون أن يكونوا على علم بما يفعلونه، إذ تمّ إيهامهم بأنهم سيقومون بمهمة هدفها محاصرة عناصر ثورية احتلت بنايات عدة في قرية “الصخيرات”. فتوجه الجميع إلى القصر الملكي الذي لم يكن معروفاً لهم آنذاك، وبدأوا بتنفيذ أوامر الكولونيل “محمد أعبابو”، مطلقين الرصاص، مقتحمين القصر لتنفيذ المناورة، ليفاجأوا أنهم خدعوا، وأن ما يفعلونه هو محاولة انقلاب. “انطلق التلاميذ في فوضى جنونية تجاوزت حدتها حدود الكارثة، يطلقون النار في كل الاتجاهات، معتقدين أنها فعلاً مناورة مدبرة، غير أنها كانت مناورة في منتهى الغرابة، لم تترك للضباط سرعتها الفائقة في الواقع أي فرصة لالتقاط أنفاسهم واستعمال عقلهم لتحليل الموقف“.

مقالات أخرى:

سلسلة #أدب_السجون في العالم العربي

#أدب_السجون | رواية “أنشودة البرد والحرية

يروي الكاتب كيف فشلت محاولة الانقلاب، وكيف أعدم مدبروه من الجنرالات والضباط الكبار، في حين تم تحويل جميع العسكريين من الرتب الأدنى إلى محاكمة عسكرية، وحكموا بالسجن، من دون أن يشفع لهم أنهم لم يكونوا على علم بما يفعلونه بل ينفذون أوامر عسكرية لا يستطيعون رفضها. بعد سنتين من السجن جرى اختطاف السجناء وترحيلهم إلى معتقل “تزممارت”، الذي أُعدّ بشكل سري خصيصاً لرميهم فيه.

يخصص الكاتب فصلاً كاملاً من كتابه يوثّق فيه أسماء جميع المعتقلين الثمانية والخمسين وأرقام زنزاناتهم، كما يوثق أسماء الحراس المسؤولين عنهم معطياً لمحات قصيرة عن كل واحد منهم مما استطاع جمعه من معلومات. ويخصص فصلاً آخر يذكر فيه جميع السجناء الذين ماتوا هناك، من باب الوفاء لهم، وتأكيداً منه على أنهم لن يُنسوا، وأن جثثهم المدفونة في حفر الجير في باحة السجن ستبقى وصمة عار على جبين الإنسانية. هكذا يفرد لكل واحد منهم مقطعاً يروي فيه قصة موته وأسبابه، فمنهم من مات بسبب المرض وعدم وجود أدوية وعناية طبية، ومنهم من مات بسبب البرد، ومنهم من انتحر لأنه لم يعد يتحمّل العيش في ظل كل ما يحصل هناك.

يصف المرزوقي، الذي كانت من نصيبه الزنزانة رقم 10 في المعتقل، العذابات التي قاساها هو ورفاقه، بدءاً بكمية الطعام القليلة ونوعيته السيئة، مروراً بالأمراض والأوبئة التي كانت تنتشر بينهم بسبب قلة النظافة وانعدام العناية الصحية، وانتهاءً بليالي البرد الشديدة، إذ كانت درجة الحرارة تنخفض إلى ما دون الصفر، من دون أن يكون لديهم ما يكفي من ألبسة وأغطية. “كان كلما اقترب الليل، قدمت جحافله بكل أنواع المناشير والمقامع لتشج وتحز وتمزق فينا العقل والأعصاب. فبعضنا كان يقضي الساعات الطوال في القفز المتواصل وكأن به من الجنون مساً، وبعضٌ آخر، كان يذرع الزنزانة في الظلام جيئة وذهاباً على نحو ما تفعله الحيوانات الأسيرة في أقفاصها الضيقة. أما فئة أخرى فقد كانت تستمر في حك أطراف جسدها بحثاً عن سراب دفء“.

يروي الكاتب تفاصيل الحياة اليومية في المعتقل، والأساليب التي أوجدها المعتقلون لمواجهة الصعوبات التي يعيشونها، فمثلاً يذكر كيف أنهم اخترعوا لغة مشفرة خاصة كي يتواصلوا في ما بينهم من دون أن يستطيع الحراس فهم ما يقولون، فاخترعوا “اللغة التزممارتية”، التي يفرد فصلاً للحديث عنها، مدرجاً فيه عينة من الكلمات المشفرة.

إضافة إلى كل اللحظات القاسية التي عاشها مع رفاقه في المعتقل، يذكر بعض اللحظات التي على بساطتها، كانت لحظات مضيئة في ظلام السجن الطويل، إذ بددت وحشة الصمت والعزلة، كما حصل حين بدأت كلبة بالتسلل إلى الزنازين أثناء دخول الحراس، فألفها السجناء وألفتهم، وأطلقوا عليها اسم “هندا”، وكما حصل حين دخل طائر من أحد القضبان الحديدية، وعاش معهم لفترة، فأحبوه واعتبروه بشارة أمل مطلقين عليه اسم “فرج“.

يكشف “المرزوقي” كيف تمكن البعض من الاتصال بأهلهم، بمساعدة بعض الحراس، وهذا ما ساهم بأن يصبح المعتقل السري معروفاً، فبدأت الجهات المعنية في الخارج بالضغط على السلطة المغربية لإخراج المعتقلين، فما كان من السلطة إلا أن أنكرت وجود مثل هذا المعتقل، معتبرة أنه ليس موجوداً إلا “في الخيال المريض لأعداء المغرب“.

يصوّر الكاتب في فصل مؤثر لقاءه بأمه بعد خروجه من المعتقل، فقد استمرت الدول الغربية بالضغط على حكومة المغرب، إلى أن نال من تبقى من السجناء حريتهم، “لما تواجهنا وأصبح كل واحد منا على مرمى خطوة من الآخر، وقفتُ. ووقَفت. فتحت عينيها تنظر إلي كالمصعوقة. حاولت أن أبتسم، فجمعت شتات عقلي وقلت في دفعة واحدة بصوت خرج مبحوحاً من شدة الاختناق: حبيبتي أمي. كيف أنت؟“.

كذلك يشير المؤلف إلى الصعوبات التي واجهها بعد خروجه من “تزممارت”، سواء في إكمال دراسته أو في البحث عن عمل، أو غيرها من الأمور التي تصل إلى نظرة المجتمع للشخص الذي كان معتقلاً. ويلفت أيضاً إلى مراوغات وزارة حقوق الإنسان في كل ما يتعلق بملف السجناء السياسيين، إذ ظلوا فترة طويلة يماطلون من دون تحقيق وعودهم بدفع التعويضات المالية للمعتقلين، وتأمين السكن والطبابة اللازمة، وإيجاد فرص العمل لهم، بعد أن أخذ السجن شبابهم ورماهم كهولاً ليصارعوا الحياة وقسوتها.

الناشرالمركز الثقافي العربي/ بيروت – الدار البيضاء

عدد الصفحات: 446

الطبعة الأولى: 2012

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button